فصل: كتاب العلم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المتواري على أبواب البخاري



.كتاب بدء الوحي:

.باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم:

وقول الله- عز وجل-: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده} [النساء: 163].
فيه عمر بن الخطاب: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه».
قال سيدنا ومولانا الفقيه- رضي الله عنه-: إن قلت: ما موقع حديث عمر من الترجمة، وأين هو من بدء الوحي؟
قلت: أشكل هذا قديماً على الناس فحمله بعضهم على قصد الخطبة والمقدمة للكتاب، لا على مطابقة الترجمة، وقيل فيه غير هذا. والذي وقع لي أنه قصده- والله أعلم- أن الحديث اشتمل على أن من هاجر إلى الله وحده، والنبي صلى الله عليه وسلم كان مقدمة النبوة في حقه هجرته إلى الله، وإلى الخلوة بمناجاته، والتقرب إليه بعباداته في غار حراء، فلما ألهمه الله صدق الهجرة إليه، وطلب وجد وجد، فهجرته إليه كانت بدء فضله عليه باصطفائه وإنزال الوحي عليه، مضافاً إلى التأييد الإلهي والتوفيق الرباني الذي هو الأصل والمبدأ والمرجع والموئل. وليس على معنى ما ردّه أهل السنة على من اعتقد أن النبوة مكتسبة، بل على معنى أن النبوة ومقدماتها ومتمماتها، كلٌّ فضل من عند الله، فهو الذي ألهم السؤال وأعطي السؤل، وعلق الأمل وبلغ المأمول، فله الفضل أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً- سبحانه وتعالى-. ولم يذكر البخاري في هذا الحديث: «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله». وهو أمس بالمقصود الذي نبهنا عليه. وذكر هذه الزيادة في الحديث في كتاب الإيمان، وكأنه استغنى عنها بقوله: «فهجرته إلى ما هاجر إليه» فأفهم ذلك أن كل ما هاجر إلى شيء فهجرته إليه فدخل في عمومه الهجرة إلى الله. ومن عادته أن يترك الاستدلال بالظاهر الجلي، ويعدل إلى الرمز الخفي. وسيأتي له أمثال ذلك.

.كتاب الإيمان:

.باب الدين يسر:

وقوله صلى الله عليه وسلم: «أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة».
فيه أبو هريرة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسدّدوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة».
قال- رضي الله عنه-: إن قال قائل: أين موضع أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة، من الحديث الذي ذكره في الباب؟
قيل له: إن لفظ الترجمة في الحديث لم يوافق شرط البخاري، فلما وافقه حديث الباب بمعناه، نبه عليه في الترجمة، يعني أنه إن فات صحة لفظه، فمعناه صحيح بهذا الحديث الذي ذكره مسنداً. ومقصوده من الترجمة وحديثها التنبيه على أن الدين يقع على الأعمال، لأن الذي يتصف باليسر والشدة، إنما هي الأعمال دون التصديق. وقد فسّر الأعمال في الحديث بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة. وكنى بهذه الفعلات عن الأعمال في هذه الأوقات، كقوله: {أقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل} [هود: 114]. وقال: «شيء من الدلجة» ولم يقل: والدلجة لثقل عمل الليل، فندب إلى حظّ منه، وإن قلّ، أو لأن الدلجة سير الليل كله، وليس القيام المحثوث عليه مستوعباً لليل، وإنما هو أخذ منه على اختلافهم في القدر المأخوذ، والله أعلم.

.باب حسن إسلام المرء:

فيه أبو سعيد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أسلم المرء فحسن إسلامه، يكفر الله عنه كلّ سيئة كان زلفها، وكان بعد ذلك القصاص: الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبع مائة ضعف، والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله عنها».
فيه أبو هريرة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أحسن أحدكم إسلامه، فكل حسنة يعملها كتبت له بعشر أمثالها، إلى سبع مائة ضعف. وكل سيئة يعملها تكتب له بمثلها».
إن قال قائل: كيف موقع هذه الترجمة من زيادة الإسلام ونقصانه؟
قيل: لما أثبت للإسلام صفة الحسن، وهي زائدة عليه، دلّ على اختلاف أحواله. وإنما تختلف الأحوال بالنسبة إلى الإعمال، وأما التوحيد فواحد.

.باب أحبّ الدين إلى الله أدومه:

فيه عائشة رضي الله عنها: إن النبي- صلى الله عليه وسلم دخل عليها، وعندها امرأة، قال من هذه؟ قالت: فلانة- تذكر من صلاتها- قال: «مه عليكم بما تطيقون، فوالله لا يملّ الله حتى تملوا». وكان أحبّ الدين إليه ما دام عليه صاحبه.
قال: سيدنا الفقيه- رضي الله عنه:- إن قال قائل: كيف موقعها من زيادة الإيمان ونقصانه؟.
قلنا: لأن الذي يتصف بالدوام والترك، إنما هو العمل. وأما الإيمان فلو تركه لكفر، دلّ على أن العمل الدائم هو الذي يطلق عليه أنه أحبّ الدين إلى الله عز وجل، وإذا كان هو الدين كان هو الإسلام لقوله: {إن الدين عند الله الإسلام} [آل عمران: 19].

.باب زيادة الإيمان ونقصانه:

وقوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم} [المائدة: 3]. فإذا ترك شيئاً من الكمال فهو ناقص.
فيه أنس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن بُرّة من خير، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن ذرة من خير».
وفيه عمر: إن رجلاً من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً. قال أي آية؟ قال: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} [المائدة: 3] وذكر الحديث.
قال سيدنا الفقيه- رضي الله عنه-: في الآية تصريح بإكمال الدين، وتصوّر إكماله يقتضي تصوّرّ نقصانه. ولا يحمل على التوحيد، لأنه كان كاملاً قبل نزول هذه الآية. وأما الحديث فوجه دلالته أنه فاوت بين الإيمان القائم بالقلب، ولو كان هو التصديق خاصة لكان واحداً.

.باب الزكاة من الإسلام:

وقوله: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصَّلاةَ ويؤتُوا الزَّكاةَ وذَلك ديْنُ القَيّمَة} [البيّنة: 5].
فيه طلحة بن عبيد الله: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد، ثائر الرأس يسمع دويُّ صوته ولا يفقه ما يقول، حتى دنا فإذا هو يسأل عن الإسلام. فقال: «خمس صلوات في اليوم والليلة، وصيام رمضان، والزكاة». فقال: هل عليّ غيرها؟ قال: «لا إلا أن تطوع». فأدبر الرجل يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص. قال: «أفلح إن صدق».
قال سيدنا الفقيه- رضي الله عنه-: موضع الاستشهاد قوله: {وذلك دين القيّمَة}. إشارة إلى أن الصلاة والزكاة، دل أنهما من الدين، والدين الإسلام.

.باب خوف المؤمن أن يحبط عمله وهو لا يشعر:

وقال إبراهيم التيمي: ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذباً.
وقال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل.
ويذكر عن الحسن: ما خافه إلا مؤمن، وما أمنه إلا منافق، وما يحذر من الإصرار على التقاتل والعصيان من غير توبة، لقوله عز وجل: {ولم يصرُّوْا على ما فعلوا وهم يعلمون} [آل عمران: 135].
فيه زبيد: سألت أبا وائل عن المرجئة فقال حدثني عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر».
وفيه عبادة: أن النبي صلى الله عليه وسلم، خرج يخبر بليلة القدر فتلاحى رجلان فرفعت.
قال الفقيه- رضي الله عنه-: انتقل من الرد على القدرية إلى الرد على المرجئة، وهما ضدان: القدرية تكفّر بالذنب، والمرجئة تهدر الذنب بالكلية. والذي ساقه في الترجمة صحيح في الردّ عليهم.

.باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة ولكل امرئ ما نوى:

فدخل فيه الإيمان، والوضوء، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والأحكام.
وقال الله تعالى: {وقل كل يعمل على شاكلته} [الإسراء: 84]على نيته.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ولكن جهاد ونية».
فيه عمر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الأعمال بالنية ولكل امرئ ما نوى، فمن كان هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه».
وفيه أبو مسعود: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أنفق الرجل على أهله- وهو يحتسبها- فهو له صدقة».
وفيه سعد: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها حتى ما تجعل في في امرأتك».
وقال الفقيه- رضي الله عنه-: المرجئة تزعم أن المعتبر الإيمان باللسان، ولا حظ للقلب فيه، فردّ عليهم باعتبار نية القلب في الأعمال مطلقاً فدخل الإيمان وغيره من العبادات.

.باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة لله، ولرسوله ولأئمة المسلمين، وعامتهم»:

وقوله عز وجل: {إذا نصحوا لله ورسوله} [التوبة: 91].
فيه جرير: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم.
وفيه: أن جريراً قام يوم مات المغيرة بن شعبة فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: عليكم باتقاء الله وحده لا شريك له، والوقار، والسكينة، حتى يأتيكم أمير. فإنما يأتيكم الآن. ثم قال: استعفوا لأميركم، فإنه كان يحب العفو. ثم قال: أما بعد! فإني أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له: أبايعك على الإسلام، فشرط عليّ: «والنصح لكل مسلم». وربّ هذه البنية إني ناصح، ثم استغفر ونزل.
قال الفقيه- رضي الله عنه-: جاء حديث بلفظ الترجمة (الدين النصيحة)، ولم يدخله البخاري إنما أدخل معناه في الحديث الذي أورده.
ووجه المطابقة أنه صلى الله عليه وسلم بايعهم على الإسلام وعلى النصيحة، كما بايعهم على الإسلام دلّ أنها معتبرة بعد الإسلام، خلافاً للمرجئة، إذ لا تعتبر عندهم سوى الإسلام، ولا يضّر الإخلال بما عداه. وظن الشارح أن مقصود البخاري الرد على من زعم أن الإسلام التوحيد، ولا يدخل فيه الأعمال، وهم القدرية، وهو ظاهر في العكس، لأنه لما بايعه على الإسلام، قال له: «وعلى النصيحة». فلو دخلت في الإسلام لما استأنف لها بيعة. والله أعلم.

.كتاب العلم:

.باب الاغتباط في العلم والحكمة:

وقال عمر- رضي الله عنه-: تفقهوا قبل أن تسودوا.
وقال أبو عبدالله البخاري: وبعد أن تسودوا.
فيه ابن مسعود: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا حسد إلا في اثنين، رجل آتاه الله مالاً، فسلّطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة، فهو يقضي بها ويعلّمها».
قال الفقيه- رضي الله عنه-: وجه مطابقة قول عمر- رضي الله عنه- للترجمة أنه جعل السيادة من ثمرات العلم، وأوصى الطالب باغتنام الزيادة قبل بلوغ درجة السيادة. وذلك يحقق استحقاق العلم، لأنه يغتبط به صاحبه، لأنه سبب سيادته.

.باب ما ذكر في ذهاب موسى في البحر إلى الخضر:

وقوله: {هل أبتعك على أن تعلمن مما علمت رشداً} [الكهف: 66].
فيه ابن عباس: إنه تمارى هو والحرّ بن قيس في صاحب موسى صلى الله عليه وسلم قال ابن عباس: هو خضر. فمرّ بهما أبيّ بن كعب، فدعاه ابن عباس، فقال: إني تماريت أنا صاحبي هذا في صاحب موسى الذي سأل موسى عليه السلام السبيل إلى لقيه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «بينما موسى في ملأ من بني إسرائيل، جاءه رجلّ فقال له: هل تعلم أحداً أعلم منكّ؟ فقال موسى: لا، فأوحى الله إلى موسى، بلى! عبدنا خضر، فسأل موسى السبيل إليه، فجعل الله له الحوت آية. وقيل له: إذا فقدت الحوت فارجع فإنك ستلقاه». وذكر الحديث.
قال الفقيه وفقه الله: موقع قوله: «في البحر» من الترجمة، التنبيه على شرف التعليم، حتى جاز في طلبه المخاطرة بركوب البحر، وركبه الأنبياء في طلبه، بخلاف طلب الدنيا في البحر فقد كرهه بعضهم، واستثقله الكل، ووجه مطابقته للقصة: إن موسى عليه السلام قال للخضر: هل أتبعك على أن تعلمن فاتبعه ليتعلم منه في البحر حال ركوبهما السفينة، وفي البر حال سيرهما في البر، بعد النزول.

.باب فضل من عَلِمَ وعَلَّمَ:

فيه أبو موسى: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً، فكان منها نقيةٌ قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادبُ أمسكت الماء فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأ. فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعني ما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به». وقال إسحاق قيلت الماء مكان قبلت.
قلت: رضي الله عنك! إن قال قائل: ما موقع فضل العلم والتعلم من الحديث؟ وإنما هو تمثيل للحالين. قيل له: قد شبة صاحب العلم في نفعه للخلق بالغيث، وشبه متحمل العلم في ذكائه بالأرض الطيبة المنبتة. وناهيك بهما فضلا.

.باب رفع العلم، وظهور الجهل:

وقال ربيعة: لا ينبغي لأحد عنده شيء من العلم أن يضيع نفسه فيه أنس: قال لأحدثكم حديثا لا يحدثكم أحد بعدي، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن من أشراط الساعة أن يقل العلم، ويظهر الجهل، ويظهر الزنا، وتكثر النساء، ويقل الرجال حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد».
قال الفقيه- رضي الله عنه- إن قلت ما وجه مطابقة قول ربيعة لرفع العلم؟.
قلت: وجهها أن صاحب الفهم إذا ضيع نفسه فلم يتعلم، أفضى إلى رفع العلم، لأن البليد لا يقبل العلم، فهو عنه مرتفع. فلو لم يتعلم الفهم لارتفع العلم عنه أيضا، فيرتفع عموماً، وذلك من الأشراط التي لا تقارن في الوجود إلاَّ شرار الخلق. فعلى الناس أن يتوقوها ما أمكن.

.باب فضل العلم:

فيه ابن عمر- رضي الله عنه-: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بينا أنا نائم، أوتيت بقدح لبن، فشربت حتى إنيّ لا أرى الريَّ يخرج من أظفاري. ثم أعطيتُ فضلي عمر بن الخطاب». قالوا: فما أوّلته يا رسول الله! قال: «العلم».
قال الفقيه- رضي الله عنه-: إن قلت: ما وجه الفضيلة في الحديث؟
قلت: لأنه عبر عن العلم بأنه فضلة النبي صلى الله عليه وسلم، ونصيب مما آتاه الله. وناهيك له فضلاً، إنه جزء من النبوّة.

.باب السمر في العلم:

فيه ابن عمر- رضي الله عنه-: صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم العشاء في آخر حياته، فلما سلم قام فقال: «أرأيتكم هذه، فإن رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد».
وفيه ابن عباس: بتُّ في بيت خالتي ميمونة بنت الحارث- زوج النبي صلى الله عليه وسلم وكان النبي صلى الله عليه وسلم عندها في ليلتها، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم العشاء، ثم جاء إلى منزله فصلى أربع ركعات، ثم صلى ركعتين، ثم نام، ثم قام، ثم قال: نام الغليم- أو كلمة تشبهها- ثم قام، فقمت عن يساره، فجعلني عن يمينه، فصلى خمس ركعات، ثم صلى ركعتين، ثم نام حتى سمعت غطيطه أو خطيطه. قال إن قيل: أين السمر في حديث ابن عباس؟ ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن نفسه، أنه تكلم تلك الليلة، إلا قوله صلى الله عليه وسلم: «نام الغليم» أو نحوه، وهذا ليس بسمر. قيل: يحتمل أنه يريد هذه الكلمة فيثبت بها أصل السمر. ويحتمل أن يريد ارتقاب ابن عباس لأحواله صلى الله عليه وسلم، ويتبعه. ولا فرق بين التعلم من الحديث والتعلم من الفعل. فقد سهر ابن عباس ليلته في طلب العلم، وتلقيه من الفعل والتعلم مع السهر، هو معنى السمر. والغاية التي كره لها السمر إنما هي السهر خوف التفريط في صلاة الصبح، فإذا كان سمر العلم، فهو في طاعة الله فلا بأس. والله أعلم.

.باب ما يستحب للعالم إذا سئل أي الناس أعلم أن يكل العلم إلى الله عز وجل:

فيه ابن عباس: عن أبيّ بن كعب قال: قام موسى عليه السلام خطيباً في بني إسرائيل فسئل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا أعلم. فعتب الله عليه إذ لم يردَّ العلم إليه، فأوحى الله إليه أن عبداً من عبادي بمجمع البحرين، هو أعلم منك. قال: يا ربّ وكيف به؟ فقيل له: احمل حوتاً في مكتل فإذا فقدته فهو ثم. فانطلق معه فتاه يوشع بن النون، وحملا حوتاً في مكتل حتى كانا عند الصخرة، وضعا رءوسهما فناما. فانسل الحوت من المكتل فاتخذ سبيله في البحر سربا. وذكر الحديث.
قال الفقيه- وفقه الله-: ظنّ الشارح أن المقصود من الحديث التنبيه على أن الصواب من موسى كان ترك الجواب، وأن يقول: لا أعلم. وليس كذلك، بل ردّ العلم إلى الله متعين أجاب أو لم يجب. فإن أجاب، قال: الأمر كذا، والله أعلم. وإن لم يجب قال: الله أعلم.
ومن هنا تأدّب المفتون في أجوبتهم بقوله: والله أعلم. فلعل موسى لو قال: أنا، والله أعلم، لكان صواباً. وإنما وقعت المؤاخذة باقتصاره على قوله: أنا أعلم. فتأمله.

.باب من سأل وهو قائم عالماً جالساً:

فيه أبو موسى: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! ما القتال في سبيل الله؟ فإن أحدنا يقاتل غضباً، ويقاتل حمية. فرفع إليه رأسه- قال: وما رفعه إليه إلا أنه كان قائماً- فقال: «من قاتل أن تكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله».
قال الفقيه- رضي الله عنه-: إن قيل: ما موقع الترجمة من الفقه؟.
قلت: موقعها التنبيه على أن مثل هذا مستثنى من قوله: «من أحبّ أن يتمثل له الناس قياماً، فليتبوأ مقعده من النار». فنبه بهذا الحديث على أن مثل هذه الهيئة مع سلامة النفس مشروعة. والله أعلم.

.باب من أجاب السائل أكثر مما سأله:

فيه ابن عمر: إن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم ما يلبس المحرم؟ فقال: «لا يلبس القميص، ولا العمامة، ولا السراويل، ولا البرنس، ولا ثوباً مسه الزعفران، ولا الورس. فإن لم يجد النعلين فليلبس الخفين وليقطعهما حتى يكونا تحت الكعبين».
قال الفقيه- وفقه الله تعالى-: رحمة الله على البخاري أنّه أمعن في استنباط جواهر الحديث التي خفيت على الكثير. وموقع هذه الترجمة من الفوائد، التنبيه على أن مطابقة الجواب للسؤال حتى لا يكون الجواب عاماً، والسؤال خاصاً، غير لازم، فيوجب ذلك حمل اللفظ العام الوارد على سبب خاص على عمومه، لا على خصوص السبب، لأنه جواب وزيادة فائدة. وهو المذهب الصحيح في القاعدة.
ويؤخذ منه أيضاً: أن المفتى إذا سئل عن واقعة، واحتمل عنده أن يكون السائل يتذرع بجوابه إلى أن يعديه إلى غير محل السؤال، وجب عليه أن يفصّل جوابه، وأن يزيده بياناً، وأن يذكر مع الوقعة ما يتوقع التباسه بها. ولا يعّد ذلك تعدياً بل تحرياً. وكثير من القاصرين يدفع بما لا ينفع، ويأتي بالجواب أبتر تسرعاً، لا تورعاً. والزيادة في الحديث بقوله: «فإن لم يجد النعلين» إلى آخره. والله أعلم.